خواطري (الاندماج مع القطيع)
تسرقني الحياة كثيرا مني وتأخذني بعيدا عن شاطئي الهادئ، تجعلني أعتاد على ما لا ينتمي إليه، أراني أتشبه بغيري بصفات غريبة بحثا عن القبول، أهذا ما تعلمته من طفولتي القاسية! أن أكون متشابهة مع القطيع كي يتم قبولي، أن أكون أنا أول من يرفض تميزي واختلافي مثلما يفعل العالم، يرفض أي غريب، وكأنه هناك قانون في بلادنا يجبر المرئ ألا يكون نفسه، أن يكون نسخة من الآخرين فنكون نسخة لورقة مملة واحدة! تجبرنا الحياة هنا في هذه البلاد على القيود، أولا ترفض السجن والقيود التي فُرضت عليك وبعدها تتأقلم عليها وتقوم أنت بدور السجان والجلاد لنفسك لتكمل هذه المهمة القاسية!
في كل مرة تحاول أن تجعل أجنحتك تنمو من جديد بعد قصها تجد نفسك تخاف النمو، تخاف الطيران مرة أخرى، تخاف أن تعيش بعد الموت، كأنك كنت في غيبوبة دامت سنين وتخشى الحياة رغم أنها أكبر ما تمنيت، وها قد جاءتك الفرصة لكن لا تعرف كيف تقتنصها! لقد اعتدت على الظلام وتخاف الضوء كأن الضوء هو الممرض وليس الظلام!
أتذكر كوني مختلفة، في شكلي وطباعي عن أقراني، وأتذكر كأنه حدث بالأمس تلك الانتقادات القاسية ومحاولة تقويمي لأكون مثل الآخرين، مطيعة هادئة لا تحاول الخروج عن النص! ماذا لو كانت طبيعتي تدفعني للانطلاق والارتجال والإبداع؟! أسنقتل كل هذا فقط للحفاظ على النص المكتوب مسبقا! أشعر وكأن هناك مخرجا يقف خلف كاميرا حياتي ويخبرني ماذا أفعل وماذا لا أفعل؟ وهناك جلاد آخر ينتظرني أن أخطئ في النص ليعاقبني عقابا قاسيا! لطالما كان بحثي الدائم عن مساحة آمنة ينطلق بها سجنائي وصفاتي الحبيسة بدون أن أستمع إلى نقد لاذع مرة أخرى للمرة المليون يشغل حيزا كبيرا من حياتى، أشعر حينها أني أتنفس الصعداء، أني أحلق بجناحي فوق جبل إيفريست، ولكن هذه اللحظات تكون نادرة جدا لدرجة أني أبحث عنها كالباحث عن الماء في الصحراء! ألا يمكننا أن نترك العنان لأنفسنا وللآخرين بدون التبجح حول ما هو صحيح وخاطئ من وجهك نظرك! وما هو الإطار الذي يجب أن نبقى بداخله كما بقيت أنت!
أتذكر تلك النشوة التي تتملكني حينما أرى أحدهم يعيش حرا طليقا بدون قيود، حينما يحب المرئ ما يفعل ويفعل ما يحب، حينما يكون المرئ نفسه ولا أحد غيره.
تراودني الأفكار المتناقضة كثيرا، يخبرني عقلي أن أبقى مع القطيع كي لا يدهسني وأموت قتيلة الزحام، وينهره قلبي مخبرا أننا سنعيش بالحياة مرة واحدة، ولن نعيش بوجه زائف وحياة زائفة حزينة طالما هناك ولو فرصة واحدة نقاتل فيها من أجل الحرية، من أجل أن نحيا بذواتنا الحقيقية بدون زيف، وماذا لو متنا؟! لا بأس سأموت شهيدة محاولة التحرر، الحرية تناديني بصوت دفين يزيد يوما بعد يوم، وكأنها تشتاق للقائي أكثر من شوقي لها.
أتذكر أسوأ كابوس عشته في حياتي، حين أكملت الثامنة عشر من عمري ولم أستطع التعرف علىّ، حين نظرت للمرآة ولم أعرفني، حين بحثت عن صفاتي الحقيقة فلم أجدها، حين وجدتني قد اندمجت مع الزيف والوجوه التي أضعها باستمرار وكأنه لا يمكن إزالتها مرة أخرى، كثرة التطبع بشئ فاق الطبع بأميال كثيرة حتى تكاد لا تعرف الحقيقي من المزيف، هنا عندما اختلط الحق بالباطل شعرت بأن زلزالا يصيب كياني يخبرني بأن أستفيق من غفلتي وابدأ رحلتي في البحث!
اليوم أكملت خمسة وعشرين عاما، هل وجدتني؟! نعم وجدت ضالتي لكني ما زلت لا أقوى على العيش بها، لا أستطيع التمسك بها بقوة، أفلتها كثيرا وأرجع للماضى القاسي بقدماي، أحاول جاهدة ألا أعود لكني أنسى من أنا فأفتش بداخلي فأجد المزيد من الزيف بجانب الحقيقة فتخدعني الكثرة عن القلة، ولكني أتذكر قوله تعالى (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)، الحق يغلب بإذن الله، هذا ظني بالله، أنه سيعيننا على الطريق نحو النجاة بأنفسنا، أنه سيجعلنا ممن أتاه بقلب سليم، وكيف سنأتيه بقلب سليم ونحن لا نعرف أنفسنا! النفس هي من تعيننا على تحديد الوجهة التي سنمشى بها فاللهم ارزقنا لذة العيش بصدق أنفسنا ولذة الوصول لجناتك بطيب أنفسنا.
تعليقات
إرسال تعليق