سجن الانفصال

تكمن معاناتي مع اضطراب ما بعد الصدمة في الانفصال، صديقي غير المرغوب به الذى يمر بي مرارا وتكرارا، بدون دعوة، ودون إذن يقتحم حياتي ويفسدها بعد محاولاتي الكثيرة البائسة أن أعيش وأظهر أمام العالم بشكل طبيعي كالناس هؤلاء من حولي.

كلما حاولت وصف حالتي لأحدهم أصابني العجز، تصيبني جملة كيف حالك بالتوتر! كيف أخبرهم أني لست بخير، كيف أخبرهم عن الانفصال الذى يلتصق بي.

عندنا يزورني الانفصال تزورني معه خسارات عدة، ينزف قلبي ألما، أول شعور أفقده هو الحياة، أشعر أني بعداد الموتى يا عزيزي، بل حتى لا أرتقي للأموات فهؤلاء في راحة عني، أتمنى الحياة حينا وأتمنى الموت حينا أخرى، أشعر بأني شفافة لا يمر بي أي شعور، حتى الهواء لا يعبرني، هل أصبح جسدي فجأة لا شئ! ألن يصطدم بي الهواء البارد أو الحار! يتجنبني كل شئ حتى الهواء. رئتاي ترتجفان عطشا لا أشعر أنه يدخلهما هواء، كأن الفراغ يملؤ الجو، يدخل رئتي يزيدني فراغا فوق فراغي الداخلي، وكأنه ينقصني ألم!

كل الألوان التي كانت تملأ العالم تحولت لرمادى لعين، ضباب يحوم فوق الأفق، أخسر رؤيتي السليمة لكل الأشياء، حتى أكاد لا أراني من شدة الضباب وانعدام الرؤية. إذا ارتطمت بي سيارة نقل كبيرة يقينا لن أشعر بها، التخدير العميق الذى يعلو أعضائي يسيطر ويقتلني بدون رحمة، الانفصال يمثل هتلر الخاص بي، مختل يصيب أي حي أمامه ولا يلتفت إليه أبدا.

أتعلم ما يؤلمني أيضا يا عزيزي؟ ليس أن الأحداث السعيدة لا تسعدني بل حتى الأحداث الحزينة لا تصيبني بأي حزن، أتحول لصخر جامد لا يبتسم ولا يبكي ولا يشعر تماما، أصف نفسي دائما وقتها بكائن الزومبي، هذا الميت الذى أعيد للحياة ويمشى مشية الموت ويلتهم أي عنصر للحياة تبقى على الأرض.
أرى الاستنكار وربما الكره من أحدهم عندما يجدني بهذا الشكل، حتى هؤلاء لا يترحمون على روحي!! بدلا من إخباري أنه لا بأس فالغد مشرق يخبروني أني أصبحت شخص ممل، سئ، غير أهل للصحبة، لا يليق به إلا الوحدة! يريدون وجهي المبهج الممتلئ بالحياة دائما ولا يتقبلون أبدا انطفائي.

أتعلم أكثر ما يقتلني حينها؟ أني أفقد كل قنوات الاتصال بالعالم الخارجي والداخلي، حتى أنني أفقد التواصل مع الله! أتذكر حديثي عن القرآن واستشعار آياته! أخسر هذا أيضا! أشعر بأن داخلي برود قاتل كأن الطقس بالداخل مثل طقس ألاسكا، جليد لا يذيبه حتى كلام الله! أحاول الاتصال بالله مرارا وتكرارا لكن لا أسمع أي إجابة، كأن صوتي لا يخرج مني له أو أنه لا يصل تماما إليه، أو ربما يكون الله غاضب مني، أشعر حينها بالوحدة القاتلة حينما ينفلت مني حبل الله، حينما أشعر أن الله الذى كان دائما بجانبي لم يصبح له وجود! لست كافرة يا عزيزي، أنا أؤمن بوجود الله، لكن مع وجود الانفصال لا أشعر بالله، يصيبني هذا كله بألم عميق يكسوني، أشعر وكأني أريد جمع كل ما يمكن تدفئتي به من العالم كله وإعطائه لي في محاولة لتدفئة روحي الباردة، يصيبني اليأس لكني أتذكر أن الله موجود حتى لو لم أشعر به، أدعوه من داخلي حين يعجز لساني وشفتي عن التحرك، أدعوه مرارا وتكرارا أن يدفئ روحي، أن يحييني فهو الذى يخرج الحي من الميت، أن يحيي بداخلي الأمل بدلا من الألم، أن يبدل اللام بالميم ❤

أسوأ حالاتي حين يلتصق بي اليأس ولا أستطيع أن أتذكر أن الله أقرب إلىّ من حبل الوريد، سأطلب منك يا عزيزي طلب صغير، لن أطلب منك الرحمة أو المحاولة لمساعدتي، لكن أرجوك ذكرني بوجود الرحيم، ذكرني باللطيف ولا تنسني فإني مكروب، وادعُ لى ألا يسرق هذا الانفصال حياتي كلها.

#ptsd

#dissociation 

#psychotalks

SDGs3#


تعليقات

  1. سلمت يداك ي دكتور 🤍❤️ و ربنا يوفقك و يكرمك دائما 🤍

    ردحذف
  2. اسلوب الكتابة جميل جدا و مؤثر 😊

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خواطري (براحٌ لا يسعنى)

خواطرى(ألم لا يُحتمل)

طفلٌ جريح