خواطرى (طفلتي وأنا)

- كانت طفلتي تسير بمفردها هائمة لا تعلم وجهتها، وكان الجو ضبابيا رماديا غريبا كقلبها القابع بين أضلعها، والهواء يشوبه التراب كمشاعرها في الآونة الأخيرة، كلما حاولت أن تتنفس أخذ التراب يضيق علي صدرها وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، والأمواج تزداد علوا، وصوت اصطدامها بالصخور كأنه صراخ طفل غاضب، وحتي السماء التي طالما اتسمت بالهدوء تعلن عن عاصفة قوية، كل علاماتها قد اتضحت من ضباب وهواء غير نقي ملئ بالتراب وسماء حمراء، وهاهو البرق يعلن عن قدومه ليسطو علي أعين الناظرين ويلفت انتباههم بقوته ولمعانه الذي يضئ السماء في ظلمتها الحالكة وكأنه مشتق من ضوء القمر، ولكنه سرعان ما يهرب ويختبئ مرة أخري. ظنت أنه سيعبر عن جماله المرعب هذا بكل قوة ولن يختفي مرة أخري ويتركها وحيدة  ولكن ربما هو يخجل من أعين الناظرين فطالما عاهدته علي الخجل الممزوج بسرعة البديهة وقوة الظهور بشجاعة، كيف لهذه الصفات أن تجتمع سويا في شخص واحد ! دائما ما كان يسرق هذا جزءا من قلبها ويسلبها عقلها لساعات متواصلة، تتعجب حينا وتُعجب حينا وتزدري من هذا التناقض حينا أخري، لكنها ما زلت تحتفظ بصداقتها به وحبها له .

- لم تتعد دقائق معدودة حتي تفاجأت بتوأم روحه، هذا الرعد الذي تندمج ملامحه الغاضبة بصوته المنفر مع صديقها اللطيف، وما زادها تعجبا لهذا الصديق كانت علاقته بذاك الغاضب واصطحابه له في جميع نزهاته تقريبا في العواصف، كانا كوجهين لقطعة نقدية واحدة لا يفترقان أبدا رغم تناقضهما. ولكنها بعد معاشرة كليهما علمت أنه هناك صفة تجمع كليهما لا يمكن أن تزول أبدا فقد جمعتهما ألا وهي طيبة القلب، لكن الرعد كان مختلفا في أنه قد خُذل كثيرا فأصبح يعبر عن مكنون قلبه بغضبه وصوته الذي ما زال يزعجها، وما زالت طفلتي تذوب بين جمال الطبيعة وغضبها الذي لا يمكن تهدئته.

- كانت تائهة بين كل تلك التفاصيل التي تشبهها ، كانت تشعر بالوحدة الشديدة عندما بدأت سيرها لكنها سرعان ما أحست بالونس مع مشاعر الطبيعة. كم عانت صغيرتي من عدم فهم البشر لها ونبذها ووصفها بما ليس بها لكنها الآن وجدت موطنها حيث الأمان والحب غير المشروط.

- لم تكن بتلك الشجاعة التي تجعلها تندمج مع وحوش الطبيعة هكذا بدون خوف أو رهبة، ولم تكن حتي بالشجاعة الكافية لتسطر مشاعرها المخبئة داخل أعماق قلبها وتطلق سراحها وهذا بإذن حراسها بالتأكيد. أظن أنها الآن ستتحدث إليكم بطهر قلبها  فهي طلبت مني ذلك بكل قوة وشجاعة فأنا الآن لست حارسا من حراسها الأقوياء وقد استقلت وتخليت عن جميع مهامي وأوليت بهم جميعا لصاحبتها الأصلية بعدما وجدت منها البسالة في المعركة التي انقضت علي قلبها منذ نعومة أظافرها.

 الآن .. الآن .. الآن وليس فيما بعد،أحدثكم من قلب الحدث حيث صار ما لم أكن أرجو وسأروي لكم آلامي بشفافية تامة. طالما وجدتني تائهة وخائفة بين جنس البشر، وثقت فيمن لم يكن أهل له، وأحببت من لم يكن قادرا علي إعطائي مثيل ما شعرت، أعطيت خيرا وحصدت طعنات في قلبي لا تُعد ولا تُحصي، نبذوني لتميزي، وتنمروا علي قلبي النقي الذي دائما ما أعطي بغير حساب، حتي بشرتي التي تشبه القمح سودوها بقبح كلامهم، حسدوني علي ما أملك ولم يعلموا ما لا أملك وما يقطن في قلبي من آلام. وبعد هذه الأحداث المتتالية والفقد لأحياء وأموات عينت حراس أشداء علي قلبي الجريح حتي يُشفي ويصبح قادرا علي مواجهة هذا العالم مرة أخري، لكنني في منتصف المعركة كنت أختبئ بالداخل تاركة لجنودي المهام الصعبة، ولكني بعدما اندمجت بطبيعة الخالق وتعلمت ما لم أتعلمه في عالم البشر، وشعرت بما كنت أحتاج وجمعت شجاعتي لأواجه نفسي وأحزاني التي كونت وحشا ربما في يوم ما كان سيصبح أقوي مما عليه جنودي.

سأسرد لكم تفاصيل قلبي مع الطبيعة لعلها تلمس قلوبكم كما لمستني وهدأت من روعي..
-كان قلبي شبيهاً بالأمواج المتلاطمة والمتصادمة مع الصخور في اضطرابه، يزيل كل ما يسئ له من قمامة ليحيا حياة طيبة مع كائناته الحية بداخله وهكذا فعلت أنا في الواقع فأزلت كل القاذورات التي لطخت حياتي بالسواد، أقصد البشر الذين أحببتهم ولم يحبوني ولم يقدروا مجهوداتي التي لا تقدر بثمن، يقولون اعتزل ما يؤذيك ففعلت.

-كان قلبي يشبه الضباب في مشاعره المتناقضة غير الواضحة التي تشوبه سلبيات لا تُعلم مصدرها تماما كالتراب الآتي سريعا مع رياح الخماسين التي تزيغ أبصارنا، ومشاعري أعمت قلبي فترة كبيرة حتي تاه عن الحياة ولم يعد يدرك حتي ما بداخله، لقد تاه عن الجميع حتي عن نفسه ولكنه بعد فتره تأقلم مع هذه العواصف الترابية وأصبح قادرا مره أخري علي رؤية نفسه والشعور بها بشكل أوضح من ذي قبل .

-كان قلبي يشبه البرق في ضيائه بمشاعره التي تبهر الناظرين فجأة وتتركهم فجأة، مذبذبين بين حبهم لي وكرههم لفقدي بسبب تقلباتي المزاجية المرهقة وحزني الذي كنت أغرق به بدون طوق نجاة إلا بحبل الله الذي أخذني إلي السطح مرات عديدة لألتقط أنفاسي وأكمل معركتي مع الحياة.

-كان قلبي يشبه الرعد في غضبه وصياحه بما يشعر وبصوته الذي أزعج الكثير حتي أنه أزعجني أنا، ولكني بعد فترة ليست بقصيرة تقبلت هذا الصراخ بقلب رحب، لقد أصبح سيمفونية عذباء أستمع إليها في إنصات شديد، أدون نغمات ألمي على بضعة أوراق، فأدرسها كأنها ضرب من ضروب علم الأحياء.

-كان قلبي يشبه الأمطار الغزيرة في دموعه التي تنهمر بسببٍ وبدون، فقد جفت الأعين وتصحر القلب حتي رواهم الله بلطفه وعفوه ورحمته التي شملتني وقت البلاء حتي عاد قلبي للحياة مرة أخري وأحياني الله بالأمل وأزهر أراضي روحي بخضرةٍ جميلة.

كانت ومازالت الطبيعة الأم الحنون التي تمدني بما أحتاج من حبٍ غير مشروطٍ، فكانت حضنا دافئا أختبي فيه من رياح الدنيا القاسية، كانت الطبيعة "صديقتي الوحيدة" التي لا تتركني في أسوأ ظروفي، وتتقبلني كما أنا، وتحبني باضطرابي وحزني ودموعي التي بللت ملابسها كثيرا، فلم تلفظني من جمالها عندما رأت عيوبي وجانبي المظلم الذي طالما خفت أن أشاركه لبشريّ قد يقلل من شأنه، كانت الصديقة التي طمأنتني حين أفزعتني الحياة بفتنها فذكَّرتني بالله وعظمته وقدرته علي جعل الألم قوةً وجمالا يزين الروح.

. وما الطبيعة إلا جنود الله في أرضه وما نحن إلا عباده نتمسك بحبله راجين منه أن يبلغنا الآخرة بنقاء قلوبنا وسلامتها من كل سوء فاللهم فرج قريب...

✓أفسحوا المجال لقلوبكم ولمشاعركم لتعيش بحرية بدون حراس فتتحرر إلي الكون وتنسجم مع أركان الطبيعة، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واستعينوا بالله فليس لنا سوا .. يحررنا من حب الدنيا بالبلاء حتي نأتيه بقلب سليم..



تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خواطري (براحٌ لا يسعنى)

خواطرى(ألم لا يُحتمل)

طفلٌ جريح